محمد نور الدين شحادة
في غمرة التنافس الشديد بين اوروبا بقيادة بريطانيا العظمى و الولايات المتحدة الأمريكية على النفوذ في دول النظام العربي والأسلامي والعالم ، فكان العدوان الثلاثي على مصر عام 956 ، من قبل بريطانيا وفرنسا و " إسرائيل " العميل التنفيذي لبريطانيا العظمى وقتئذ ، بعد أن استطاعت الولايات المتحدة من الإستئثار بحكم بأكبر دولة عربية ( مصر ) من خلال عبد الناصر الذي تم تكريسه عميلاً لها تحت غطاء زعيم القومية العربية ،
- غضبت الولايات المتحدة ، ودخلت في مواجهة ساخنة ضد العدوان ، وقررت في ضوء إفشالها المشروع الأوروبي، إقتلاع النفوذ البريطاني من المنطقة ، وأمرت بريطانيا بسحب قواتها العسكرية المتواجده فيها ، فخرجت من الكويت وخرجت من الأردن ، وفرضت على إسرائيل التحول من عمالتها البريطانية لتصبح عمالة أمريكية .... والتي ما زالت حتى اللحظة ! .
- عشت تلك الأحداث وأنا أعمل مُدرساً ، وقررت الإلتحاق بقوات الأمن العام عند الإعلان عن توجهات المديرية لعقد أول دورة ضباط مؤهلين في كلية الشرطة الملكية .
- وبعد التخرج عدت الى الكلية للإشراف على تأهيل دورة الضباط الثانية ، ومن بعدها دورة الضباط الحقوقيين، في خطوة لتحسين مستوى العمل الأمني .
- لم تكن في الأردن دائرة تعنى بشؤون المخابرات حتى كان العام 964 عندما صدر قانون دائرة المخابرات العامة ، والتي تشكلت من عدد من العاملين في الأمن العام والتحقيقات السياسية ، وكنت واحداً من هؤلاء بعد أن زارني مساعد مدير الأمن العام في العقبة وزودني بملف القدس لدراسته تمهيداً لتعييني مديراً لمخابرات القدس ، وبقيت في هذا الموقع حتى العام 967 .
- عدت بعدها لإشغال منصب مدير مخابرات معان العقبة والكرك حتى العام 970 عندما نُقلتُ مُديراً لمخابرات الزرقاء قبيل أحداث أيلول ، اختلفت مع الحاكم العسكري هناك على كيفية إدارة الأمور ، حيث عُدتُ الى مركز الدائرة في عمّان بعد شهر واحد ! .
- كان معالي الفريق نذير رشيد مدير المخابرات بانتظاري ، والذي وقف معي في الزرقاء بكل رجولة وشرف ، وهو يملك في جعبته خطة شجاعة لتأهيل كوادر الدائرة إستخبارياً ، فابتعثني الى جهاز المخابرات البريطاني لدراسة علومهم المتقدمة في النشاط الإستخباري ، كما ابتعثني بعدها الى الولايات المتحدة لدراسة الشأن الإستخباري على مستوى القيادة . وهكذا ، تم تأهيلي استخبارياً على كافة المستويات إبتداءً من أجهزة ألمانيا مروراً ببريطانيا والولايات المتحدة ، وإنتهاءً بالصين . وقد عكفت على دراسات شخصية لكافة الأحزاب العاملة في المنطقة ، والتي تخرجت من الجامعة الأمريكية في بيروت ، من قومية ووطنية واشتراكية ، فضلاً عن الأحزاب الإسلامية وفي مقدمتها حزب التحرير .
- وبعد عودتي من الولايات المتحدة ، استقبلني معالي الفريق وكشف لي عن خطته في تأهيل كوادر الدائرة ، لِأبدأ مهمتي بكل إصرار على النجاح ، والتي استمرت حوالي عشرة أعوام من العطاء .
- ولأننا نتعامل مع أصحاب فكر حزبي ، فكانت الخطة تتضمن إعداد ضباط يملكون مواجهة الفكر بالفكر والعلم بالعلم ، فاقتضت الخطة العمل على امتلاك العاملين طريقة تفكير إيمانية تستطيع معها التعامل مع الفكر المستورد وتستطيع نقض تلك الأفكار ، فكان على كل ضابط مطالعة كتاب واحد في الأسبوع وبيان ما له وما عليه في نقاش عام مع الضباط ، وقد بنيت مكتبة متكاملة في خدمة هذا الهدف ، وأثمرت الخطة بشكل يدعو للإعجاب .... ومع المتابعة فإن جلسة واحدة مُعدّة مع أي حزبي تكفي لإستسلامه ، باستثناء بعض الشيوعيين منهم والذين يصّرون مع الحنث العظيم ! .
ومن هنا استوعب الضباط مفاهيم كافة الأنظمة الحياتية المختلفة إبتداءً من نظام الحكم والمال والأقتصاد والاجتماع والتعليم والأدارة والصحة والبيئة والقضاء والسياسة وأنظمة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والاستخبارية ، وقد انعكس هذا الفهم على سلوكهم حتى إنك تجد في كل مكتب سجادة للصلاة !.
- وبطلب من رئيس هيئة الأركان ومدير الأمن العام فقد تم تكليفي بتأسيس مدرسة الاستخبارات لتكون مسؤولة عن تأهيل العاملين في المجال الاستخباري لدى القوات المسلحة والأمن العام والمخابرات العامة ، لاكتساب طريقة تفكير واحدة ، وما تزال المدرسة فاعلة في مجالها .
- ومع ممارستي لمهام ( مدير التدريب ) في الدائرة تم تكليفي بمسؤولية فرع " اسرائيل " المختص بالنشاط الاستخباري ومقاومة أجهزتهم الاستخبارية ، ومن أبرز الأنجازات هنا ، إختراق غرفة عمليات قوات هيئة الأمم العاملة في المناطق المحتلة ، وتزويدي بالتقرير الأسبوعي للهيئة المقدم الى مكتبهم بنيويورك ، ورغم الهالة المصطنعة لقدراتهم الاستخبارية فإنهم ، وكما وصفهم الوحي لا يفقهون ولا يعقلون ، كونهم يعتمدون على عملائهم من الصف الأول ، وعند ممارستهم النشاط من خلال العملاء والآخرين فإن جلهم يتحولون الى عملاء مزدوجين بعد تشغيلهم، حتى إنهم لم يكتشفوا إن أخطر عملائهم الذي كان في قبضتنا ، بأنه يحاكم عندنا بتهمة التجسس ! بعد ثلاثة أشهر من توقيفه واستمرار الاتصال مع أجهزتهم من قبلنا من خلال الأجهزة المضبوطة معه ، فمن الثوابت الاستخبارية التأكد من هوية العميل في كل مرة يجري فيها الاتصال وبموجب إشارة خاصة ! .
- هذا بالإضافة الى ممارستي مهمة ضابط ارتباط مع المخابرات المصرية زمن السادات ، وكان آخر لقاء ، بعد إقدامه على توقيع اتفاقية الكامب ديفيد ، والتقرير بأن خطته تمثل أكبر خيانة للعرب والمسلمين ، إلا إذا ثبت أن الأمر لا يتعدى محاولة عملية لخداع العدو ، ومفاجأته بعمل جاد في العمق الأسرائيلي ، وثبت أنه يمارس عمالته التي بدأت في العام 1945 م مع مخابرات بريطانيا وتحويله فيما بعد الى المخابرات الأمريكية ! .
وبالمحصلة
- اكتشفت من خلال دراساتي في مختلف الأجهزة العالمية ، إن ثوابت النشاط الاستخباري واحدة في كافة الدول، وإن الأهداف المشتركة بينهم لا تخرج عن المواجهة الفاعلة مع الإسلام ، في الوقت الذي يستمر الصراع بينهم من منطلقات الأنانية والإستكبار الذي يُظللهُم ، والأهم أن الوحي قد فصّل كل ما يتعلق بثوابت النشاط الإستخباري . ما دام أن القرآن قد نزّل تبياناً لكل شيء ، وما دامت الأجهزة هي سيدة الموقف في ديارها وهي من تحكم عالم اليوم والأمس .
- ومن هنا فإن العلم الاستخباري مُغيّب عن وعي المجتمعات العربية والإسلامية إمعاناً في تجهيلها ، والدوران في حلقات مفرغه ، لا تعرف نفسها أو أعداءَها ولا تحدد أهدافها . ولا تدري كيف تُساق الى الأفعال ، ولا تتصور كيف تخرج من أزماتها أو مواجهتها .. ولا تعرف شيئاً عن توجهات الأجهزة حيالها .
- ولعل من أهم أسباب سقوط دولة الخلافة الأسلامية في تركيا هو افتقارها الى وجود جهاز استخباري مؤهل ، وكذلك أسباب سقوط حكم جماعة الأخوان في مصر .
- وإمعاناً في التجهيل ، اصبحت أجهزة المخابرات في النظام العربي والإسلامي تفوح من دهاليزها رائحة الجريمة والعدوان والاغتصاب والظلم والاستهتار بمواقع الشعوب ، وهي تُساق بريموت الأجهزة المتحكمة بالبلاد ، حتى أصبح موقع المخابرات أحط من مواقع الشياطين ! فغدت المجتمعات لا تطيق مجرد سماع اسمها ! .
الأزمة مع إدارة الدائرة
- رغم مصداقيتي العملية ، وقدراتي التنظيمية المتمثلة في إختراق معظم الأحزاب والحركات والتنظيمات على مستوى القيادة غير إنني فوجئت في العام 967 بقرار ترفيع النقيب احمد عبيدات الى رتبة رائد ، رغم إنني أقدم منه في الرتبة ، ورغم إنه أحد افراد دورة الضباط الحقوقيين الذين قمت بتدريبهم في كلية الشرطة الملكية عسكرياً وأمنياً وقانونياً . وقد قمت بتقديم استقالتي فوراً غير أنه تم ترفيعي الى رتبة رائد في اليوم التالي ، وتم حفظ طلب الاستقالة !
- وبعد مسرحية حرب ال 967 وعودتي الى عمّان ، كنت المتحدث الرئيسي في اجتماع ضم كبار الضباط برئاسة الباشا محمد رسول مدير المخابرات من الأردن وقع في خدعة كبيرة عندما أوكل شأنه الى القيادة الموحدة العربية ، والتي لم تمكن الجيش العربي الأردني من مواجهة العدوان " الأسرائيلي " وقد فوجئت بهجوم شرس اتهمني الباشا بأني عميل للموساد ! .
- وفي العام 968 ، قامت إحدى تنظيمات المقاومة الفلسطينية بتفجير مستودعات النفط في المرشرش ( ايلات)، حيث صدرت تعليمات عليا بنقلي من العقبة كوني وراء عملية التفجير ، بالإضافة الى تزويد المقاومة في الجنوب بالأسلحة والتبرعات ، ورغم عدم قناعة مدير المخابرات بتلك المعلومات ، غير إني وجدت نفسي منقولاً الى الكرك .. فقدمت استقالتي للمرة الثانية ، غير أَن المدير ( مضر بدران ) مزق الاستقالة ، في الوقت الذي استنكفت عن العمل لمدة ثلاثة أشهر .
- وفي اواخر العام 978 ، وبعد تحويل أخطر عملاء الموساد الى محكمة أمن الدولة ، ورفضي للحكم الصادر بحقه بالأشغال الشاقة ، كون التهمة والبينات الثبوتية تقتضي بإعدامه ، والجدير بالذكر إن المتهم وأثناء مقابلتي الأخيرة معه قبل توديعه الى المحكمة ، أبدى شكره على المعاملة الإنسانية التي تلقاها من ضباط الفرع رغم أنه ذاهب للإعدام ، فبينت له إننا لسنا في موقع الإنتقام ، بل في موقع المعالجة والرعاية لمن ضلّ السبيل بالحكمة الفاعلة . وهذه القاعدة هي إحدى الثوابت التي حرصت على تفعيلها لدى كوادر الدائرة .. المهم إنني تفاجأت بنقل المتهم المحكوم الى مستشفى هداسا في القدس المحتلة خلال أيام من صدور قرار الحكم ، ولما راجعت المدير ( احمد عبيدات ) بالموضوع أنكر علمه بالأمر ! فقدمت استقالتي الثالثة الى دولة رئيس الوزراء ( مضر بدران ) ، ورغم رفضه لها مبدئياً ، إلا أنه صدر قرار إحالتي على التقاعد بعد ثلاثة أشهر من تقديمها بعد إصراري على إنهاء عملي في الدائرة ! .
- لم تنته الأزمة مع الدائرة حتى بعد تفرغي للعمل الحر ، حيث طلبت من الباشا محمد رسول التدخل لدى البنك المركزي لحل مشكلتي الناشئة عن الحجز على عقاراتي وشركتي ، بعد أن رفض العراق دفع مستحقاتي عليهم بسبب إعتقادهم أن شركتي تابعة للمخابرات وإني قدمت الى العمل في العراق في مبنى وزارة التصنيع العسكري لأغراض مخابراتية ، وما تزال مطالبتي ( 19 مليون دولار ) قائمة . غير أن الباشا اتصل مع مدير البنك المركزي زياد فريز وطلب منه تنفيذ قرار البيع بالمزاد العلني وهكذا سحبت الدائرة كل ما أملك ...
- العجيب أن الدائرة تعتقد بأني عميل للشهيد صدام حسين ونظامه بعد ان نشرت الصحف العراقية في صفحاتها الأولى اشاده الرئيس بكتابي الأول ( قناع القناع ) . وما تزال المواجهة قائمة !.
الأعمال الحرة
- عشقت كل ما يتعلق بالنشاط العقاري ، عندما تمكنت من بناء طابق جديد ( 100 م2 ) على منزلي في جبل عمّان، والذي حصلت عليه بتسهيلات بنكية من خلال الدائرة ، وقبل إحالتي على التقاعد تمكنت من بناء مشروع سكني في أم أذينه 12 شقة ، وأنا لا أملك غير راتبي ، بعد أن منحني صديق قديم قطعة الأرض التي سجلها البنك العربي بأسمه ، مقابل منحه شقة من المشروع ، وبدأ المشروع يموّل نفسه بنفسه من خلال البيع للمعارف والأصدقاء بعد تنظيم الخرائط المعتمده !
- فكان هذا المشروع مقدمة لقفزة واسعة في عالم المقاولات ، حيث أنشأت شركة EMI للمقاولات بأسم زوجتي ، وكانت البداية في بناء فندق القدس ، وفندق الماريوت ، وفندق القصر في عمّان ، بالإضافة الى مشروع وزارة التصنيع العسكري في بغداد ومشاريع معالجة المياه في الشمال ، والمنطقة الحرة في الزرقاء ومشروع مياه إربد ، وادي العرب ، ومأدبا ، ويأتي مشروع مطار الملكة علياء الدولي أكبر المشاريع المنفذه بقيمة 70 مليون دولار ، حيث قدم جلالة الملك وسام تقدير للشركة ، بعد تنفيذه في أقل من الوقت المحدد ، حيث لم يتوقف العمل فيه على مدى 24 ساعة في اليوم ، وبلغ تعداد المهندسين والفنيين فيه 3500 عاملاً .
- وامتد نشاطي الى المجال الدولي في تسويق النفط في اوروبا ، والذهب بالتعاون مع سيدة الفلبين الأولى ايميلدا ماركوس، وقد اتممت معها صفقة لتسويق 18 طن من الذهب ، وفق الأصول القانونية ودفع الرسوم المطلوبة للبنك المركزي والتأمين والمنطقة الحرة ، غير ان اختطاف الرئيس وزوجته حال دون اتمام الصفقة بسبب عدم تجاوب الرئيس مع طلب السلطات الأمريكية تقديم مقتنياته من الذهب لحل مشكلة الدولار الذي لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تغطيته بالذهب اثر أحداث حرب فيتنام .. ومن هنا كان فك ارتباط الدولار بالذهب !
التواصل
محمد نور الدين شحاده . عمان / الأردن
هاتف جوال : 00962795003617
بريد اليكتروني : mohammadshihadeh2017@gmail.com
فيسبوك : Mohammad N. Shihadeh